الخطبة وأحكامها
تعتبر الخطبة بطبيعتها مرحلة مؤقتة حيث تنتهي بالنهاية الطبيعية لها والمرجوة منها (أي بالزواج), أو تنتهي بالعدول عنها بإرادة الطرفين أو بإرادة أحدهما المنفردة» كما يمكن أن تنتهي الخطبة بسبب غير إرادي (كوفاة أحد الخاطبين) أو بظهور مانع من موانع الزواج؛ ولهذا ينصب الحديث عن الخطبة في تعريفها وبيان طبيعتها (المطلب الأول)؛ وعن حكم النظر إلى المخطوبة وعن من لا تجوز خطبتها. كذلك يجب التطرق إلى الآثار التي يمكن أن تترتب على العدول عن الخطبة (المطلب الثاني).
المطلب الأول : تعريف الخطبة
تبدأ رحلة تكوين الأسرة في اللحظة التي يشعر فيها الرجل بحاجته إلى زوجة صالحة تشاركه حياته؛ فحينئذ يبدأ بالبحث عن من تصلح أن تكون له قرينا, والشريعة الإسلامية أوصت بأن يختار الرجل شريكة حياته على أسس قوية. ونظرا لقدسية عقد الزواج ولما يترتب عنه من آثار, فإنه غالباً ما تسبقه مقدمة تتمثل في الخطبة التي وضعت لها أحكام مفصلة.
فالخطبة - بكسر الخاء- تعبير واضح عن رغبة الرجل في الزواج من إمرأة معينة وإعلان هذه الرغبة إليها أو إلى ذويها بنفسه أو بمن يوفده لهذا الغرض بعضا من أقاربه أو أصهاره أو أصدقائه؛ ويشترط في صحة الخطبة أن تكون المرأة صالحة شرعا للزواج منها, خالية من الموانع الشرعية. فالشرع الإسلامي لم ينظم مقدمات الزواج بأحكام خاصة؛ بل بين الفقه كل ما يفصل بالخطبة من أحكام.
المطلب الثاني : أحكام الخطبة
تعتبر الخطبة مشروعاً قدا يؤدي إلى اقتران رجل(الخاطب) بامرأة(المخطوبة), فهي وسيلة إلى غاية, فكان من المناسب أن تدور الوسيلة (الخطبة) في نطاق الأهداف المرسومة للغاية (الزواج)؛ ولذا فتحديد الأسس التي يتم على ضوئها اختيار المخطوبة؛ تتحدد في إطار شرعية الزواج وغايت, غير أن الخطبة تتعلق بها موضوعات عدة: ما أثر قراءة الفاتحة أثناء الخطبة؟ هل يمكن للرجل أن يخطب أي امرأة؟ كيف تنقضي الخطبة وما مآل ما يهدى للمخطوبة أوما يدفع لها من صداق إن حصل ما يحول دون إتمام الخطبة؟ هل يمكن لأحد الطرفين مطالبة الطرف الناكل عن إتمام الخطبة بالتعويض عن الضرر الذي يمكن أن يحصل لأحدهما بسبب تصرفات الآخر التي لا مبرر لها؟ ما هو مصير الحمل أثناء الخطية؟ تلك هي جملة التساؤلات الخاصة بالخطبة التي يجب معالجتها والإحاطة بها على الشكل التالي :
- أولا: الخطبة ليست زواجا
إذا تم التفاهم بين رجل وامرأة على الزواج في المستقبل, فهذا لا يعتبر عقدا للزواج وإنما وعدا به. فما دامت الخطبة وعدا, فلا ينتج عنها أي أثر من آثار عقد الزواج حتى ولو قدم الخاطب جزءا من الصداق أو كله للمخطوبة أو تبادل الخاطبان الهدايا. فالخطبة مرحلة سابقة على الزواج تمهد له فقط, وهذا الحكم متفق عليه في جميع القوانين الحديثة للأحوال الشخصية والأسرة في العالم العربي الإسلامية.
ومن بين هذه القوانين المادة5 من مدونة الأسرة التي تقضي بآن الخطبة : "تواعد رجل وامرأة على الزواج... يتحقق بتعبير طرفيها بأي وسيلة متعارف عليها؛تفيد التواعد على الزواج, ويدخل في حكمها قراءة الفاتحة وما جرت به العادة والعرف من تبادل الهدايا". فمدونة الأسرة عرفت الخطبة بالتواعد بدل الوعد كما كان واردا في مدونة الأحوال الشخصية سابقا, ممايعني إقرار المساواة بين الطرفين اللذين يعد كل منهما الآخر, وبهذه الصيغة الجديدة 'تواعد"؛ يكون الرجل خاطبا ومخطوبا في نفس الوقت؛ والمرأة خاطبة
ومخطوبة في نفس الوقت أيضاء بمعنى أن مدونة الأسرة ارتقت بالخطبة إلى مستوى تواعد صادر عن رجل وامرأة واتفاق بين طرفين متساويين. فالخطبة تعتبر تواعداً من أجل الإشهاد على عقد الزواج فيما بعد, فالفترة الفاصلة بين التعبير عن هذا التواعد والإشهاد على الزواج تعتبر فترة خطبة ولاتلزم الطرفين. وفي هذا الصدد؛ تقضي مدونة الأسرة بأن الطرفين يعتبران في فترة خطبة إلى حين الإشهاد على عقد الزواج.
فالخطبة في حد ذاتها وسيلة للتعرف على المخطوبة وعلى الصفات الحسية التي يهم الرجل الاطمئنان إليها حتى يقدم على الزواج؛ كما أن الخطبة وسيلة اختيار المرأة الصالحة العفيفة؛
ولهذا ينصح الشاعر بقوله *
وإذا تزوجت فكن حاذقا 4 " واسأل عن الغصن وعن منبته
واسأل عن الصهر وأحواله " من جيرة الحي وذي قربه
ثانيا:من لاتجوز خطبتها
يلزم لصحة انعقاد الخطبة عدم وجود مانع يحول دون قيام الزواج لأن الخطبة مقدمة من مقدماته وبالتالي فكل ما يمنع الزواج يمنع الخطوبة ولذلك لاتباح الخطبة إلا إذا توفر في المرأة المخطوبة ما يلي:
1) ألا تكون محرمة على الرجل تحريما مؤيدا سواء بالنسب أو المصاهرة أو الرضاع؛ فلايجوز للرجل أن يخطب أمه؛ أو خالته؛ أو أخته من النسب أو من الرضاع... كما يجب ألا تكون المخطوبة محرمة عليه تحريما مؤقتا (كزوجة الغير أو المرأة المشركة, فإذا كانت المرأة محرمة على الرجل تحريما مؤبداء فلا يمكن له أن يخطبها مطلقا لأن هذا التحريم يكون لازما لها ولا يفارقها مدى الحياة. وانما إذا كانت من المحرمات مؤقتاء فيمكن خطبتها عند زوال سبب التحريم (كما هو الشأن في حالة طلاق زوجة الغير وانتهاء عدتها منه؛ أو إسلام المرأة المشركة).
2) ألا تكون المخطوبة زوجة لرجل آخر, فلا يجوز خطبة امرأة متزوجة الحكمة من تحريم هذه الخطبة أن في ذلك اعتداء صارخا على ذلك الزوج؛ غيره تحل زوجة الغير لزوج آخر بعد توفر شرطين:
أ- أن تزول عصمة الزوج الأول عنها بموت أو طلاق أو تطليق.
ب- أن تستوفي العدة التي أمر الله بها وجعلها وفاء للزوجية السابقة و سياجا لها لمدة معينة حددها الشرع.
3)- ألا تكون المخطوبة معتدة من طلاق رجعي لأن الزوجية تبقى في هذه الحالة قائمة حكما وبالتالي لاتجوز خطبة المعتدة رجعيا لا تصريحا, ولا تعريضا فالحكمة من هذا التحريم أن المطلق يبقى له حق إرجاع زوجته أثناء العدة من غير عقد جديد. وفي هذا الشأن, يقول سبحانه وتعالى : "وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ"
4) ألا تكون المخطوبة معتدة من طلاق بائن, فلا يجوز خطبتها تصريحا ولا تعريضا حتى تنقضي فترة العدة.
5) ألا تكون المخطوبة معتدة من وفاة, فلا تجوز خطبة المتوفى عنها زوجها تصريحا ولكن يمكن خطبتها تعريضا عملا بقوله سبحانه وتعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ
6)- يجب ألا تكون من يراد خطبتها مخطوبة من طرف رجل آخر, فالرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه. فعن أبي هريرة عن النبي الأكرم :"المؤمن أخو المؤمن فلا يحل أن يبتاع على بيع أخي ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر". وعن أبي عمر أن الرسول قال : "لايخطب الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب" فالحكمة من هذا التحريم هي تلافي الشحناء والبغضاء التي تنشأ بين الخاطبين.
ثالتا: أثر الفاتحة على قوة التواعد بالزواج
الفاتحة هي السورة المعروفة في القرآن الكريم بالسبع المثاني وأم القرآن لما فيها من البركة والخير, لذلك جرى العرف على أن تطلق هذه التسمية على كلمات التبرك التي تتلو الفاتحة بعد الاتفاق التمهيدي أو التواعد بالزواج, والحقيقة أن الفاتحة سورة تثنى على الله عز وجل في نصفها الأول, وتتسم بالدعاء والابتهال إليه سبحانه وتعالى في نصفها الأخير ولم يثبت عن الرسول الأكرم ولا عن أحد من أصحابه قراءة هذه السورة عند الخطبة أو غيرهاء ومن ثمة قرر الفقهاء أنه لا يترتب على قراءتها وعدمها نفاذ أمر أو عدول عن أمر, بل إن العبرة دائما بالتراضي بين الطرفين. غير أن العادة جرت على أنه أثناء الخطبة؛ يتبادل الخاطب والمخطوبة الهدايا وتقام حفلة بالمناسبة وتقرأ الفاتحة, مما يدل على أن جميع الإجراءات قد تمت لتوثيق عقد الزواج؛ أو للاتفاق على أن كتابة هذا العقد ستتم ليلة الزفاف؛ بل الأكثر من ذلك كانت قراءة الفاتحة تعتبر في بعض الجهات من المغرب بمثابة العقد ويترتب عليها عدم قدرة المرأة على فسخه؛ كما أن تراجع الرجل يعد بمثابة طلاق قبل الدخول به؛ له نصف ما أعطاه للمرأة من هدايا بتلك المناسية.
فقراءة الفاتحة ما تزال يعتمد عليها في عقد الزيجات في العديد من المناطق إلى يومنا هذا, تحايلاً على مقتضيات مدونة الأسرة, سواء لتفادي مسطرة الإذن بالنسبة لزواج القاصرات أو فيما يخص الإذن بالتعدد...
وبالرغم من أن مدونة الأسرة نصت على إدخال الفاتحة في حكم الخطبة, فإن تلاوتها لا تؤدي إلى تغيير في قيمة التواعد بالزواج؛ كما أنها لا تضفي على هذا الأخير صبغة دينية لأن المادة 6 من نفس المدونة تقضي بأن لكل من الطرفين حق العدول عن الخطبة. وبخصوص هذه المسألة؛ سايرت مدونة الأسرة الشريعة الإسلامية التي تنص صراحة على أنه لا جناح على من يخطب إن لم ينته إلى زواج مصداق لقوله سبحانه وتعالى : وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ, غير أن المشرع لم يحدد مدة معينة للخطبة التي يمكن أن تطول أو تقصر, فهي تمتد إلى حين الإشهاد على عقد الزواجة؛ كما أنه لم يحدد سنا للخطبة؛ بل حدد فقط سن الزواج.
فالخطبة تنطوي على مرحلة التحول النهائي للمكانة المتغيرة من العزوبة إلى الزواج وكذلك التحول من الوعد مع أكثر من شخص إلى الوعد المقتصر على شخص واحد "الخاطب أو المخطوبة"؛ ومع ذلك تبقى الخطبة مشروعاً للزواج وبالتالي يمكن العدول عنه.
رابعا: العدول عن الخلبة
ما دامت الخطبة مجرد وعد متبادل بين رجل وإمرأة على الزواج في المستقبل, فإنه يمكن لأحد الطرفين أن يتخلى نهائيا عن مشروع زواجه بإرادته المنفردة وذلك في أي وقت شاء ولو لم يستند هذا العدول إلى أسباب معقولة.
وفي هذا الصدد, تنص المادة 6 من مدونة الأسرة على ما يلي: "يعتبر الطرفان في فترة خطبة إلى حين الإشهاد على عقد الزواج؛ ولكل من الطرفين حق العدول عنها"
فإذا وقع النكول؛ انقضت الخطبة ولا يجوز للطرف الذي لم يعدل أن يطلب من القضاء الجكم بإلزام الطرف الآخر بالاستمرارية وبتالي ابرام عقد الزواج, غير أنه في بعض الأحيان يمكن ان ينتج عن العدول عدة المشاكل بين الخاطب والمخطوبة؛ خاصة إذا تبادلا الهدايا أو دفع الخاطب الصداق كله أو جز, منه للمخطوبة؛ بالإضافة إلى الأضرار المعنوية وكذلك المادية التي يمكن أن تنجم عن العدول. فما هو إذن موقف القانون من هذه المشاكل وكيف يعالجها إذا حدثت؟
1) حكم الهدايا عند العدول
تتجلى آثار العدول عن الخطبة في الهدايا المقدمة إلى المخطوبة من طرف الخاطب ومن هنا يطرح التساؤل التالي: هل يمكن للخاطب أن يستردها, أم يمكن للمخطوبة الاحتفاظ بها كتعويض لها عن عدم إتمام مشروع الزواج؟
بخصوص هذه المسألة, قضت المادة8 من مدونة الأسرة بأن: "لكل من الخاطب والمخطوبة أن يسترد ما قدمه من هدايا, ما لم يكن العدول عن الخطبة من قبله. ترد الهدايا بعينها, أو بقيمتها حسب الأحوال", يتضح من هذه المقتضيات أن المدونة سارت على منوال المذهب المالكي, ومستندها في الأخذ بهذا المذهب يرجع أساسا إلى التعليل المنطقي الذي عللت به المالكية رأيها وذلك بعدم جواز اجتماع ضررين على طرف واحد (هو الطرف الذي لم يعدل) حيث اجتمع عليه ألم العدول وألم استرداد الهدايا منه. كما أن الطرف الذي عدل هو الذي سعى إلى فسخ الخطبة, أي أن إبطال العمل قد تم من جانبه؛ والقاعدة تقول :"من سعى في نقض ما تم من جهته؛ فسعيه مردود عليه"؛ ولقد سبق للقضاء المغربي أن حكم بأحقية الخاطب في استرجاعه لهداياه إذا تبين أن ما قامت به المخطوبة من تصرفات تجاه خاطبها الأول هو عمل مشوب بسوء نية يستوجب رد الهدية المقدمة؛
وأخيراء لم تتطرق مدونة الأسرة إلى الوفاة كمانع من السير بالخطبة إلى نهايتها الطبيعية ومآل الهدايا المتبادلة بين الخاطب والمخطوبة في حالة وفاة أحد الطرفين, ولكن يمكن القول إن الورثة لاحق لهم في استرجاعها لأن حكمها حكم الهبة والوفاة مانع من حق الرجوع فيها.
2)- حكم الصداق عند العدول
إذا دفع الخاطب الصداق أو شيئا منه ولم يتم زواجه بالمخطوبة؛ اتفق الفقهاء على أن له الحق في استرداد ما دفعه من صداق إذا قرر العدول عن الخطبة. فإن كان ما دفعه ما يزال قائما استرده بذاته؛ وإن هلك أو استهلك؛ رد مثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان قيميا, لأن الصداق لايستحق إلا بالزواج ولايجوز للمرأة المخطوبة أن تحتفظ به طالما الزواج لم ينعقد بعد.
بخصوص مدونة الأسرة المغربية, نصت المادة 9 منها على ما يلي: " إذا قدم الخاطب الصداق أو جزءا.منه؛ وحدث عدول عن الخطبة أو مات أحد الطرفين أثناءهاء فللخاطب أو لورثته استرداد ما سلم بعينه إن كان قائماء وإلا فمثله أو قيمته يوم تسلمه.
اذا لم ترغب المخطوية في أداء المبلغ الذي حول إلى جهاز, تحمل المتسيب في العدول ما قد ينتج عن ذلك من خسارة بين قيمة الجهاز والمبلغ المؤدى فيه".
وبما أن الصداق المشار إليه قد أعطى بقصد الزواج ومادام هذا الاخير لم يتم, يحق للخاطب استرجاعه عينا إن كان قائما (أي ما زل على الحال التي قدم عليها)؛ أو مثله (إن كان من المثليات), أو قيمته (إن تلف) يوم تسلمه اذا لم يكن من المثليات وتلك بقطع النظر عن مسألة العدول وأسبابه.
للخاطب حيازته بالمبلغ الذي أنفق في شرائه؛ ولكن إذا لم ترغب المخطوبة أو رفض الخاطييان معا تسلم الجهاز بالمبلغ الذي أنفق فيه وبيع بمبلغ أقل تحمل المتسبب في فسخ الخطبة الفرق بين المبلغين.
غير أن العدول عن الخطبة يمكن أن تنجم عنه أضرار مادية أو معنوية (كترك المخطوبة وظيفتها أو عملها أثناء الخطبة بناء على رغبة الخاطب, أو انقطاعها عن الدراسة؛ أو تفويت الخاطب على المخطوبة خاطبا آخر...)؛ هل يمكن للمتضرر من العدول في هذه الحالات أن يطالب بالتعويض, أم أن التعويض عن العدول يتعارض مع مبدأ الحرية في الزواج؟ ما هو موقف الفقهاء من هذه المسألة؟ وكيف عالجت القوانين الحديثة مشكل طلب التعويض عن ضرر العدول عن الخطبة ؟
3) - التعويض عن ضرر العدول
إذا كان الفقهاء قد أجمعوا على أن الخطبة وعد بالزواج ولكل واحد من الطرفين الحق في العدول عنها, فإنهم لم يتعرضوا لما يترتب عن هذا العدول من أضرار, فلا يوجد في كتب الفقه الإسلامي ما يدل على بحث هذا الموضوع. ولكن يمكن القول إن عدم التطرق إلى هذه المسألة يرجع إلى بعض الظروف:
- أولا, إن الحياة الإجتماعية في البلدان الإسلامية لم يكن من شأنها في العصور الماضية أن تترك مجالا للإضرار بالمخطوبة عند العدول عن الخطبة لأن الزواج كان ينعقد فورا بعد الخطبة:؛ مما لا يعطي للخاطب والمخطوبة الوقت للظهور معاً أمام الناس بمظهر الزوجين وإعطاءهما ما اعتاده بعض الأشخاص في عصرنا الحاضر بالسفر بالمخطوبة والخلوة بها, بعلة أن الخاطب يتعرف على أخلاقها وسلوكها وتتعرف هي كذلك على وضعيته وأخلاقه؛ ولربما تجاوزت الأمور هذا الحد ليستدرج أحدهما الآخر نحو الاتصالات الجنسية غير المشروعة فتحمل الفتاة قبل الأوان, كما أن الوعد بالزواج يستعمل أحيانا كوسيلة للتغرير بالفتيات والنيل منهن والاعتداء على شرفهن؛ بل اغتصابهن والتستر عما حدث خوفا من الفضيحة, مع ما يترتب عن ذلك من آثار سلبية في مجتمع ما زالت فيه العذرية هاجس الفتاة والفتى.
- ثانيا, إن كلا الطرفين يتوقع ما قد يلحق به من أضرار بسبب عدول الطرف الآخر عن الخطبة؛ لأنه يعلم أن له الحق في العدول ويمكن أن يستعمله في أي وقت قبل إيرام العقد, فالزواج لا يتم إلا بتراضي الرجل والمرأة وإن الحكم بالتعويض عن العدول لكان في ذلك إلزام ضمني للخاطب بالزواج وإكراه غير مباشر له على إتمام العقد.
- ثالثاً, لا يكون التعويض إلا لسبب من أسباب الالتزام كالإخلال بعقد أو فعل عمل ضار أو غير ذلك, فالخطبة في حد ذاتها ليست عقدا ولا يترتتب عليها أثر, وكل ما في الأمر أنها وعد بإجراء العقد, والعدول عن الوعد لا يؤدي إلى جزاء ولو أن الوفاء بالوعد من الأمور المستحبة عند بعض.
غير أنه في الوقت الحاضر, تطورت الحياة الإجتماعية وتأثرت بالحضارة الغربية وأخذت عنها الكثير من المفاهيم والأفكار, الأمر الذي انعكست آثاره على العديد من التصرفات في المجتمعات الإسلامية؛ مما أدى إلى انتشار الانحلال الأخلاقي وضعف الوازع الديني والاختلاط بين الجنسين... فكل هذه العوامل أسهمت في خلق نموذج جديد للحياة في المجتمع وبالتالي انعكست آثارها بوضوح على إنشاء الأسرة وانحلالها... فماهو موقف القوانين الحديثة من التعويض عن الضرر المرتبط مباشرة بالعدول عن الخطبة أو الناتج عن الظروف التي تم العدول فيها؟ ما هي الأسس التي اعتمدت عليها لمعالجة هذا المشكل؟ ما هي كذلك مسؤولية كل من الخاطب والمخطوبة إذا نتج عن الخطبة حمل قبل توثيق عقد الزواج؟
اختلف الفقه الحديث حول مبدأ التعويض عند العدول عن الخطبة إذا نشا عنه ضرر. فالبعض يرى أن مبدا التعويض مبدأ عادل تقره
مبادىء الشريعة الإسلامية في أصلين شرعيين:
الأصل الأول : يتمثل في مبدأ إساءة استعمال الحق والذي قال به الإمام أبو حنيفة في كثير من فروع الفقه في مسائل الولاية على القاصر, والوكالة, وحقوق الجوار... وقد أصبح هذا الميداً معمولا به اليوم في القوانين الوضعية الحديثة.
الأصل الثاني : يكمن في ' مبدأ التسبب في الضرر' وهو مبدأ مسلم به في فقه مالك حيث أن كل وعد كان سببا في إلحاق ضررء يجب الوفاء به... فبناء على هذين الأصلين: كان من الواجب التعويض عن الضرر الناشئ عن العدول؛ ولا فرق حينئذ بين أن يكون الضرر ماديا أو معنوييا.
وهناك فريق آخر من الفقه يقول إن العدول عن الخطبة حق في ذاته لا يكون سببا للتعويض لأنه حق ومن استعمل حقه الشرعي لا يكون ضامنا ولا مطالبا بما نشأ من ضرر لحق غيره باستعمال حق, غير أن فريقا ثالثا يرى أن من نكل عن الخطبة وعدل عن إبرام الزواج الموعود به؛ وترتب على ذلك ضرر للطرف الآخر فإنه يسأل على أساس الخطأ التقصيري متى توفرت شروط المسؤولية.
ويتمثل الخطأ هنا في الإخلال بواجب الحيطة واليقظة العادية؛ ذلك الإخلال الذي يكون الخطأ في المعنى الفني الدقيق الذي يعد ركنا في المسؤولية التقصيرية طبقا للقواعد العامة إلا أن بعض الفقه عارض هذا الطرح عندما رفض مبدأ التعويض عند العدول عن الخطبة لأن ذلك يؤدي بالضرورة إلى الاعتراف بالطابع الملزم للوعد بالزواج ويجعل المسؤولية عقدية كما فعل بعض الفقهاء من قبل.
أما في المغرب وفي غياب نص تشريعي في مدونة الأحوال الشخصية (الملغاة), يرى بعض الفقه أن القانون المدني قد رتب على المسؤولية التقصيرية تعويضا يمكن أن يطبق بالنسبة للخطبة عن طريق القياس حفظا للحقوق وحرصا على جعل حد للتصرفات الطائشة التي يقوم بها بعض من لا أخلاق لهم. ومما لا شك فيه أن هذا الفقه كان يشير إلى مقتضيات
الفصلين 77 و78 من قانون الالتزامات والعقود, ولكن القضاء المغربي كان يقرر عدم إمكانية تطبيق هذا القانون في مجال الأحوال الشخصية.
غير أن مدونة الأسرة وضعت حدا لهذا النقاش الفقهي عندما اعتبرت أن مجرد العدول عن الخطبة لا يتترتب عنه في حد ذاته أي تعويض, ولكن اذا صدرعن احد الطرفين فعل سبب ضرارا للآخر, يمكن للمتضرر في هذه الحالة المطالبة بالتعويض طبقا للقواعد العامة, كأن يحمل الخاطب خطيبته على الاستقالة من الوظيفة أو الإنقطاع عن الدراسة ثم
يفسخ الخطبة دون سبب, أو أن تحمل المخطوبة خاطبها على تغيير مهنته أو إنفاق عدة مصاريف لكراء أو تأثيث شقة؛ ثم تتراجع دون أي سبب عن الخطبة.
4- ترتيب النسب عن الخطبة
مجرد الخطبة لا يجعل المرأة المخطوبة زوجة للرجل للخاطب, بل تبقى أجنبية عنه طالما عقد الزواج لم يوثق بعد, ومن ذلك يحرم على الخاطب وعلىّ المخطوبة الخلوة بينهما وممارسة العلاقات الجنسية قبل إبرام عقد الزواج رسمياً. غير أن مدونة الأسرة قضت بأنه إذا تسببت الخطوبة وحصل الإيجاب والقبول وحالت ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج وظهر حمل بالمخطوبة؛ ينسب الخاطب للشبهة إذاتوفرت الشروط التالية المنصوص عليها في المادة 156 من مدونة الأسرة:
أ) إذا اشتهرت الخطبة بين أسرتيهما، ووافق ولي الزوجة عليها عند الاقتضاء؛
ب) إذا تبين أن المخطوبة حملت أثناء الخطبة؛
ج) إذا أقر الخطيبان أن الحمل منهما.
تتم معاينة هذه الشروط بمقرر قضائي غير قابل للطعن.
إذا أنكر الخاطب أن يكون ذلك الحمل منه، أمكن اللجوء إلى جميع الوسائل الشرعية في إثبات النسب.
أما إذا أقرت المخطوبة بأن الخطبة لم تقع إلا بعد حملها من الخاطب؛ فإن مقتضيات المادة 156 من مدونة الأسرة غير متوفرة, مما يتعين معه عدم الإستجابة لطلب المخطوبة والتصريح برفضه حسب ما ذهب إليه الإجتهاد القضائي. كذلك إن المرأة التي كانت ضحية اغتصاب وأدين المغتصب من أجلها وأثبتت الخبرة البنوة البيولوجية الناتجة عنه؛ فإن البنوة الشرعية لا تثبت ما دامت الخطبة لم تثبت ولم تشتهر بين الأسرتين وأن باقي الشروط المتعلقة بإثبات النسب غير متوفرة؛ إضافة إلى أن الفقه والقضاء استقرا على أن الزنا والإغتصاب لايلحق بهما النسب لأن الحد والنسب لايجتمعان إلا في حالات خاصة.
ومتى استكمل الرجل الخاطب الذي هو بصدد الإقدام على الزواج الأخذ بالمقدمات سابقة الذكر- من اختيار وخطبة - انتقل بعد ذلك إلى إدخال علاقته بالمرأة المخطوبة في إطار الشرعية ويكون ذلك من خلال إيرام عقد الزواج وتوثيقه.
المصدر:
"الزواج وانحلاله في مدونة الأسرة"..ذ.محمد الشافعي
المصدر:
"الزواج وانحلاله في مدونة الأسرة"..ذ.محمد الشافعي