المسؤولية الجنائية لشخص المعنوي بين الجدل الفقهي والتشريعي دراسة مقارنة ( المؤسسة البنكية نموذجا )

 المسؤولية الجنائية لشخص المعنوي بين الجدل الفقهي والتشريعي دراسة مقارنة ( المؤسسة البنكية نموذجا )

 الدكتور عبد الكريم المصباحي
 أستاذ بكلية الحقوق جامعة ابن زهر - أكادير

  على خلاف الاتفاق على جواز مساءلة الأشخاص المعنوية من الناحية المدنية سواء على أساس المسؤولية المباشرة أو في غير المباشرة ، فإن هذا الأخير يتلاشي إذا تعلق الأمر بالميدان الجنائي ، حيث عرفت هذه المسؤولية أخذا وردا في أوساط الفقه المقارن ، بين من ينكرها ويرفض قيامها ، وبين من يقرها ويعترف بها شأنها شأن المسؤولية المدنية ، ولكل فريق منهم حجج يستند عليها لتأييد قوله ( المبحث الأول ) هذا يدفعنا إلى التساؤل عن الكيفية التي تعاملت بها التشريعات في ظل هذا التضارب الفقهي ، لإقرار المسؤولية الجنائية للأبناك باعتبارها أشخاصا معنوية من عدمه ( المبحث الثاني ). 
المبحث الأول : الجدل الفقهي حول مسؤولية البنك الجنائية. 
إذا كانت المسؤولية المدنية للبنك كشخص معنوي ليست محلا للإنكار أو لرفض من جانب الفقه ، فإنه بالنسبة للمسؤولية الجنائية قد انقسم الفقه إلى مذهبين أولهما ينكر على البنك صلاحيته لأن يكون شخصا في نظر العقوبات وبالتالي تحمله المسؤولية الجنائية وثانيهما يقول بإقرار المسؤولية الجنائية للبنك عن أعماله. 

المطلب الأول : الاتجاه القائل بعدم ثبوت المسؤولية الجنائية للبنك ظهر هذا الاتجاه إبان القرن التاسع عشر ، واستمر إلى غاية الثلث الأول من القرن العشرين ، رفض أنصاره مساءلة الشخص المعنوي جنائيا عن الجرائم التي ترتكب باسمه ولحساب ممثليه أثناء قيامهم بأعمالهم ، ويرون أن الذي يعاقب هو ممثله القانوني ويستندون في ذلك إلى الحجج التالية : 

1 - إن طبيعة الشخص المعنوي تجعل من المستحيل إسناد الجريمة إليه وتقوم هذه الحجة على أساس أن هذا الشخص يعتبر مجرد افتراض قانوني من صنع المشرع ، اقتضته الضرورة من أجل تحقيق مصالح معينة، وأن القانون الجنائي يقوم على الحقيقة، وأن عناصر المسؤولية الجنائية هي العقل والتمييز والإرادة وهي لا تتوفر إلا لدى الشخص الطبيعي، وبالتالي فإن الشخص المعنوي ضرب من العدم، وبالتالي لا يستطيع القيام بالفعل المكون للركن المادي للجريمة. 

2 - إن قاعدة تخصص الشخص المعنوي تحول دون الاعتراف بإمكان ارتكابه الجريمة مؤداها أن المشرع لا يعترف بالوجود القانوني له إلا بقصد تحقيق غرض اجتماعي معين ، وفي حدود هذا الغرض ولا يدخل ارتكاب الجريمة بطبيعة الحال ضمن الأغراض التي تهدف الأشخاص المعنوية إلى تحقيقها ، ويترتب على ذلك أنه إذا تجاوز الشخص المعنوي حدود الغرض الذي أنشأ من أجله وارتكب جريمة لم يعد له وجود من الناحية القانونية ، وبالتالي لا يمكن أن تنسب إليه الجريمة. 

3 -تعارض المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي مع شخصية العقوبة ، وتقول هذه الحجة بأن توقيع العقوبة على الشخص المعنوي سيجعلها تصيب جميع الأشخاص الطبيعيين المكونين له والعاملين لديه ، رغم أنه يوجد من بينهم الخائن والأمين ، المذنب والبريء على حد سواء ، ويوجد من بينهم الذين لم يساهموا في ارتكاب الجريمة أي أن العقوبة ستمتد إلى جميع هؤلاء دون تفرقة بين من اتجهت إرادته إلى ارتكاب الجريمة ومن لم يردها ، مما يعني أن بعض أعضاء الشخص المعنوي يسألون جنائيا عن أفعال هم . 

4 -إن أغلب العقوبات غير قابلة للتطبيق على الشخص المعنوي فالنصوص الجنائية تتضمن عقوبات كالإعدام أو العقوبات السالبة للحرية التي لا يمكن تطبيقها على الشخص المعنوي، وبالنسبة للعقوبات المالية التي يمكن أن توقع عليه كالغرامة فإن تنفيذها أحيانا تعترضه بعض الصعوبات ، حيث يقرر المشرع في حالة عدم دفع الغرامة اختيارا جواز تطبيق الإكراه البدني على المحكوم عليه ، وهذا الإجراء لا يمكن اتخاذه ضد الشخص المعنوي . 

5 -إن معاقبة الشخص المعنوي لا تحقق الأغراض المستهدفة من العقوبة وتعني إصلاح المحكوم عليه وتأهيله اجتماعيا إلى جانب أنها لا تكفل تحقيق دورها في الردع العام ، وإذا قيل أن حل الشخص المعنوي يمكن أن يحقق الردع ، فعلى العكس من ذلك فإن هذه العقوبة ستكون ضارة بالعاملين لديه إذ ستعرضهم للبطالة وما يترتب عنها من أزمات اجتماعية. 

بصفة عامة يمكن القول إن حجج هذا الاتجاه ومبرراته التي ينفي بها إقرار المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي تحترم من وجهة نظر مجردة، إلا أن الواقع العملي وتزايد عدد الأشخاص المعنوية، و تعاظم أوجه تداخلها في حياة المواطنين اليومية دفعت باتجاه يتزايد أنصاره يوما بعد يوم لإقرار المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي . أما بالنسبة للتشريع المصري فإن الفكرة السائدة فقها وقضاء هي أن الأشخاص الاعتبارية لا تسأل جنائيا عما يقع عن ممثليها من الجرائم أثناء قيامهم بأعمالهم ولو كان ذلك لحسابهم. 

المطلب الثاني: الاتجاه الداعي إلى المطالبة بتقرير المسؤولية الجنائية للمؤسسة البنكية 

يتجه الفقه الحديث في معظم بلاد العالم إلى المطالبة بتقرير المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية ، فقد انتشرت الشركات والجمعيات والمؤسسات المعترف لها بالشخصية الاعتبارية واتسعت دائرة نشاطها وعظم خطرها وأصبح من اللازم إخضاعها لأحكام قانون العقوبات أسوة بالأشخاص الطبيعيين. 

أما الحجج التي استدل بها أنصار عدم المسؤولية الجنائية فلا تقوم على أساس ويرد عليها بما يلي : 

1 - ليس صحيحا القول بأن الأخذ بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي يتعارض مع مبدأ شخصية العقوبة، لأن الآثار الضارة التي تمتد إلى أعضاء الشخص المعنوي لم يساهموا في ارتكاب الجريمة نتيجة توقيع العقوبة عليه هي آثار غير مباشرة وبحكم الضرورة ولا شك أن في ذلك مصلحة مرجوة وأن هؤلاء الأشخاص سيعملون قدر إمكانهم على إلزام القائمين بأمر الشخص المعنوي على سلوك أحسن السبل ، تفاديا لما قد يصيبهم في المستقبل من أثر العقوبة، ومع ذلك فإن هذه الآثار يمكن أن تحقق أيضا في حالة توقيع العقوبة على الشخص الطبيعي، فالفرد الذي يحكم عليه بعقوبة سالبة للحرية أو عقوبة مالية تمتد أثارها غير المباشرة إلى أفراد أسرته. 

وللقول بالإخلال بمبدأ شخصية العقوبة يفترض أن توقع العقوبة على شخص لم يرتكب الجريمة سواء بوصفه فاعلا لها أو شريكا فيها ، أما إذا وضعت العقوبة على المسؤول عن الجريمة وامتدت أثارها بطريق غیر مباشر إلى أشخاص يرتبطون به فلا يعتبر ذلك مخالف لهذا المبدأ . 

2 -القول بأن الشخص المعنوي مجرد افتراض قانوني ليس له إرادة مستقلة قول مردود ، على اعتبار أن نظرية الافتراض تجاوزها الفقه والقضاء في القانون المدني منذ زمن بعيد ، وتبنى نظرية الحقيقة ولما كان القانون المدني يعترف بالمسؤولية التعاقدية والتقصيرية للشخص المعنوي وجوهر المسؤولية في الحالتين هو الإدراك ، فمن التناقض القول بأن الشخص المعنوي لا إرادة له في مجال القانون الجنائي، ولذلك يرى الحديث أن الشخص المعنوي حقيقة قانونية، أصبح يشكل حقيقة إجرامية، ذو إرادة جماعية مستقلة عن الإرادة الفقه...

تحميل التتمة (اضغط هنا)

المسؤولية الجنائية لشخص المعنوي بين الجدل الفقهي والتشريعي دراسة مقارنة ( المؤسسة البنكية نموذجا )


إرسال تعليق

أحدث أقدم